المفكّر عبدالحسين شعبان مكرّم في الكويت

تكرّم «دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع» اليوم في الكويت الدكتور عبدالحسين شعبان، على مجمل انتاجه الأدبي والسياسي والقانوني. وقد اصدرت «الدار» مؤخرا كتابه «جواهر الجواهري»، وسيلتقي الدكتور شعبان مع القراء في معرض الكتاب، للتوقيع عى نسخ من كتابه هذا.
وترجع معرفتي بهذا الصديق إلى مشاركتنا في مؤتمر عقد في بيروت عام 2004، وتقديري وإعجابي بشخصه واتساع معارفه وثقافته يزداد منذ ذلك التاريخ. ومن حسن حظي أن اختار هذا الصديق مدينة بيروت ولبنان موطناً له. هذا بعد النشأة في النجف، والدراسة في بغداد، ثم اضطراره لتغيير موطنه، وليس مقر إقامته. ذلك أن الدكتور شعبان، عندما يعيش في مدينة، ومن علاقاته الإنسانية وشغفه وفضوله، يحولها إلى وطن. فيألف المكان، بل ويعرّف أهل المكان ببعضهم. هذا إن كان في براغ أو موسكو أو لندن أو برلين أو أربيل أو السليمانية.

واختياره لبيروت ليس صدفة، وإنما هو خيار يجمع بين العاطفة والانتماء العربي والثقافة والسياسة. وقصدي بالعاطفة هو الحنين إلى الذكريات، فعندما أمشي معه في الشارع الرئيسي في بحمدون، يؤشر لي ثم يعرفني بصاحب محل الخياطة. لكن وإن لم يخبرني بذلك، فإنه عندما يمشي في بحمدون يتذكّر والدته ويتذكّر والده، فكان والده الذي يأخذه إلى محل الخياطة هذا في أول الستينات من القرن الماضي. وربما من أسباب تآلفنا وإعجابي به هو أننا نتشارك بنوع من الانتماء العاطفي لبيروت ولبنان. فأنا أتردد عليها منذ طفولتي، كما أني تلقيت تعليمي الجامعي فيها.

عندما أقرأ أو أسمع عن لقاء يضم عراقيين وعرباً آخرين، إن كان ذلك في مالمو بالسويد، أو في برلين، أو بغداد، أو بيروت، أو القاهرة، بالدكتور عبدالحسين شعبان، أتساءل: ما هذا السر الذي يجذب هولاء له؟ هذا غير ثقافته الأدبية والسياسية وبلاغته. ما هذا الذي يدفع هؤلاء، وفي ظل ظروف هجرة صعبة أو مواطنة أصعب بالانتقال من مكان الى آخر للقائه؟ أسأل وأجيب نفسي بأن عبدالحسين شعبان بالنسبة لهم هو ذلك، الذي يجمع بين الثقافة والسياسة من جهة، وبين سمو الأخلاق والسجل السياسي الناصع البياض، الذي افتقدناه، أو نادراً ما وجدناه في مجتمعاتنا، إن كان ذلك في الكويت أو العراق أو لبنان أو مصر او سوريا أو باقي أقطار العالم العربي. فكنّا دائماً نصبو ونأمل، وربما نتوسل لتواجد شخصية تجمع تلك الصفات فيما بيننا. كثير منا نحن العرب عانينا من العمل السياسي، وتعرضنا للاضطهاد، لندرة أمثال هذا الرجل بيننا، وهو ليس بغريب عن هذه التجربة، بل إنه من إنتاجها، لذلك يفهمها، ولذلك نجد ضالتنا فيه.

هذا الرجل لا يعطي أجوبة، ولا يقدم حلولاً، وإنما يثير تساؤلات توجّه العقل الى المسارات المحتملة المقربة من الحقيقة المواربة والغامضة. فهو يرى «أن الحياة والكون والطبيعة وكل ما حدث فيها من مدخلات ومخرجات.. وغموض المستقبل وصعوبة التكهن به والموت وما بعده، وحتى مع تقدم الثورة العلمية، قضايا تشغل الانسان وتزيد من قلقه». ويرى أن طريق التقدم مازال وعراً، يحتاج لبلوغه تعاوناً مشتركاً بين جميع قوى المجتمع. لذا فهو دائم الإشارة الى قول المتنبي:

على قلق كأن الريح من تحتي أوجهها جنوباً وشمالاً

وعندما طُلب مني أن أكتب ما سيُضَمَّن في كتاب، يصدر بمناسبة تكريم الدكتور عبدالحسين شعبان من قبل «دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع»، فرحت كثيراً وتباطأت وأخذت أؤجل البداية، لأن قربي ومحبتي لهذا الإنسان الكريم تصعب شرحها للآخرين. والأمر كان صعباً كذلك لأني لست معتاداً على المشاركة بمثل هذه المناسبات. ولشحذ الأفكار، قرّرت أن أرجع إلى كتب نشرها الدكتور شعبان، كنت قد قرأتها وتأثرت بها. وهذه الكتب هي: «كوبا الحلم الغامض»، و«فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي»، و«تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف»، و«الجواهري جدل الشعر والحياة»، و«دين العقل وفقه الواقع». والكتاب الأخير كنت قد نشرت عنه مقالين في القبس. كما تمت مناقشته وتقديمه من قبل الكاتب في ندوة عقدت في «الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية» بالخالدية في الكويت. ولكن خلال تجوال عيني، لأجمع كتباً نشرها صديقي المكَرَّم، وإذا بي أجد كتاب «المثقف وفقه الأزمة: ما بعد الشيوعية الأولى»، والذي اكتشفت أني لم أقرأه. وكنت قد اشتريته من مكتبة بيسان على شارع غاندي المتفرّع من شارع الحمراء بـ21000 ليرة لبنانية – أي ما يعادل 14 دولاراً أمريكياً – وتاريخ تسعير الكتب أو أي سلعة في لبنان يعكس مدى تدهور أو اقتصاد هذا البلد. وعندما تصفحت هذا الكتاب، وبدأت أقرأ فيه، وجدت أن هذا الكتاب هو الكتاب الذي أبحث عنه، والذي يشرح ويعطي الأسباب لنمو وتدهور المجتمعات والثقافات، ليس من خلال بحث متكامل لنيل الدكتوراه، وإنما من خلال تجربة إنسانية وسياسية وثقافية عملية، جمعت بين ما ناله من حب للثقافة والأدب، أيام نشأته الأولى في النجف، ثم جامعة بغداد، فالدراسة العليا في جامعة براغ، وتنقلاته وحياته في مدن، مثل دمشق وموسكو ولندن وبيروت. والأهم في الكتاب أنه يطرح تجربة إنسان مرهف الإحساس من ناحية، وقوي جداً من ناحية أخرى. انتمى للحزب الشيوعي العراقي في مرحلة مبكرة من حياته، واضطر بسبب هذا الانتماء أن يغادر العراق، ويجمع بين التحصيل الدراسي والعمل السياسي الدؤوب، ويتأهل أكاديمياً وحزبياً وسياسياً، مع احتفاظه بحاسة نقدية يفتقدها أغلب العاملين في المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي.

ويأخذه حبه لوطنه وانتماءه السياسي إلى جبال كردستان، حاملاً السلاح ضد الطغاة، ونصيراً للمضطهد. وهذا المثقف، الذي حمل السلاح في شمال العراق في أول الثمانينات، يساهم في تأسيس «جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان» في لبنان بعد أكثر من ثلاثين سنة. وكأنه يساهم في تقديم اللاعنف كسلوك أفضل على مسرح العمل السياسي. فالتجربة كفيلة بإعطاء قاعدة لانطلاق الأفكار. فكما هو الإبداع في الكتاب يتطلب أكثر من قضاء الساعات والأيام في القراءة، فإن الإبداع في العمل التنظيمي والاجتماعي يتطلب تجربة قد تغنيها المخاطرة. فللمخاطرة والحروب وقت، لكن لا بد أن تهدف للسلام. وفي هذا المجال، تقتبس حنة أرندت، في كتابها «في اللاعنف»، باستعارة كرويز أوبريان، من الفلاح الإيرلندي وليام أوبريان، «أحياناً يكون العنف الطريقة الوحيدة التي تؤمن سماع صوت الاعتدال»، لكنها تحذر، وإن كان العنف يحقق أهدافاً على المدى القصير، لكن يكمن الخطر بتحول الوسيلة إلى غاية. ولكن التجربة في العراق وسوريا ولبنان وليبيا وأكثر من بلد عربي، وبعد المعاناة والحروب والتشريد، تحثنا على أن العنف قد استنفد كوسيلة لتحقيق الأهداف.

لعل أهم ما نتعلمه من كتاب «المثقف وفقه الأزمة: ما بعد الشيوعية الأولى»، أن الدكتور شعبان قرأ في الماركسية والفلسفة والتاريخ الإنساني والأدب، وهضم ما قرأ، مما جعله متمكناً من نقد الماركسية وما قرأ. وفي مقدمته الفلسفية والعميقة لهذا الكتاب، يميز بين الداعية والمثقف. فالداعية في أغلب الأحيان يقرأ قليلاً، وإن قرأ لا يستوعب، وشعوره بضرورة الانتماء إلى جماعة، يجعله يبرر أخطاء جماعته، ويردد شعاراتها. وقد تكون هذه الجماعة تنظيماً سياسياً، أو قد تكون جماعة دينية. أما المثقف فلا يستطيع أن يتخلى عن حاسته النقدية، وعادة ما تكون طموحاته مثالية، وليست رغبة في تحقيق طموحات تنظيمية. وعادة ما تكون معاناته كبيرة عند الالتزام السياسي بتنظيم أيديولوجي، مثل التنظيمات البعثية والشيوعية والدينية. وهذا الالتزام المبكر في الحزب الشيوعي، مع وجود شغف معرفي، ساهم في نسج ثقافة عميقة ومتنوعة في عقل الدكتور عبدالحسين، زاد من معاناته، وذلك لأن هذه الثقافة والشغف المعرفي محملان في عقل إنسان مرهف الإحساس وحي الضمير. فمع انتمائه الماركسي واعجابه بما قدمته من فكر ومنهج، إلا أنه أدرك في وقت مبكر أن ما من فكر وما من منهج إلا ويخضع للنقد. وهذا لا يعيب الفكر، وإنما يجدد حيويته، حاثاً الماركسيين على «قراءة الماركسية بروح القرن الحادي والعشرين، وبمنهجية ماركس الذي لا يزال يمتلك حيوية، لا بتعاليمه التي تصلح لعصره، وعفّا الزمن على الكثير منها». فالفكر مهما كان حيوياً وعميقاً، فإنه يخضع لمتغيرات الزمن، ومن دون نقد يتحول الفكر إلى إحفورة. لذا يستشهد الدكتور شعبان بما طرحه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا من «أن تعاقب الحلم يجعل المرء يقوى على تحمل الكثير من المشقات».

وأستشعر من خلال قراءتي لهذا الكتاب «المثقف وفقه الأزمة: ما بعد الشيوعية الأولى»، أن الدكتور شعبان كان يعاني من الالتزام الحزبي، لأن هذا الالتزام كان يكبح حاسته النقدية، وبهذا يذكر في الكتاب: «كنت أشعر بثقل الوصاية، ولهذا حاولت البحث عن صيغ أخرى جديدة مهنية وحقوقية لخدمة الإنسان، لاسيما في البحث عن الحقيقة خارج إطار اليقينيات السرمدية والحتميات التاريخية، وبعيداً عن التهويمات العقائدية، بهدف التجديد الفكري وعبر عناوين وأسماء ذات حيوية وفعالية راهنة».

لذا وجد نفسه استاذاً في «جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان»، التي تأسست في لبنان عام 2009، وعضواً في مجلس أمنائها.

د. حامد الحمود

شاهد أيضاً

رأي في موقف احزابنا القومية من انتخابات اقليم كوردستان

بعد قرار المحكمة الاتحادية العليا الغاء المقاعد المخصصة للاقليات في برلمان اقليم كوردستان ومن ثم …