الكنيسة والسياسة.. والهوية القومية والاجتماعية 

الخوراسقف اوراها منصور – اريزونا 

مقدمة

كثيرًا ما يُثار الحديث حول دور الكنيسة في السياسة، وعلاقتها بالهوية القومية، إلى جانب دورها الاجتماعي. وقد حاول البعض ، عن قصد أو جهل ، خلط الأوراق وتقديم هذا الموضوع من زوايا متباينة، مما أدى إلى تشويه المفاهيم أو تسطيحها. في هذا المقال، نسعى لتسليط الضوء على التمييز الضروري بين الدور الاجتماعي الذي حدده “المجمع الفاتيكاني الثاني” للكنيسة، وبين مسألة انخراطها المباشر في العمل السياسي.

الكنيسة، كمؤسسة دينية، لها أبعاد اجتماعية وثقافية، تتمثل في اهتمامها بالإنسان ككائن اجتماعي يتأثر بالمحيط الذي يعيش فيه، بما يشمل الجوانب الثقافية والسياسية أيضًا. في الآونة الأخيرة، سعى البعض إلى تصوير الكنيسة على أنها منغلقة أو متعصبة، متأثرة ومؤثرة في الوقت ذاته بالأحداث المتسارعة التي يشهدها واقعها، بل وذهبت بعض الأقلام إلى اتهام رؤساء الكنيسة بالتدخل المباشر في الشأن السياسي.

وبوصفي إعلاميًا وكاهنًا من أبناء هذه الكنيسة، أتابع بدقة ما يُكتب ويُنشر من تعليقات ومقالات ومواقف، أؤكد أن الكنيسة ، حتى هذه اللحظة ، لم تتدخل في السياسة بمعناها الحزبي أو السلطوي. لكنها، من موقع مسؤوليتها الأخلاقية والاجتماعية، تمتلك الحق بل والواجب في التدخل لتصحيح المسارات الاجتماعية، والقرارات التي قد تمسّ حياة الإنسان وكرامته بشكل مباشر.

من هنا، يصبح من الضروري أن نُميّز بوعي ونضج بين ما هو سياسي بحت، وما هو اجتماعي أو ثقافي. وفي بعض الأحيان، يكون من المفيد أن نقرأ الخلفيات الثقافية والتاريخية للكنيسة، لفهم طبيعة أدوارها المتعددة، ودورها الفعال في خدمة المجتمع. ولا ينبغي أن يُنظر إلى إبداء رجل الدين لرأيه في قضايا الشأن العام كأمر مرفوض، خاصة إذا كان ذلك دفاعًا عن القيم الإنسانية، ورفضًا لأي تأثير سلبي على حياة الناس.

الفرق بين التدخل السياسي والتأثير الاجتماعي

إن التمييز بين “التدخل السياسي” و”التأثير الاجتماعي” ليس فقط ضروريًا، بل أساسي لفهم دور الكنيسة وموقعها الحقيقي في المجتمع الحديث. فكثير من الالتباسات في هذا المجال تنبع من غياب هذا التمييز، مما يفتح المجال لتأويلات خاطئة ونوايا مغرضة.

1. التدخل السياسي:

عندما نتحدث عن التدخل السياسي، فإننا نعني انخراط مؤسسة دينية ، أو رجال الدين ، في الشأن السياسي الحزبي أو السلطوي، كتأييد طرف سياسي معين، أو اتخاذ مواقف معلنة تدعم جهات حزبية، أو التأثير في نتائج الانتخابات أو السياسات العامة لصالح فئة بعينها. وهذا ما حرصت الكنيسة، وخاصة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، على تجنبه، إدراكًا منها لحساسية الموقع الذي تحتله، وحرصًا على وحدتها وموضوعيتها في النظر إلى الإنسان والمجتمع دون تسييس.

2. التأثير الاجتماعي:

أما التأثير الاجتماعي، فهو جزء أصيل من رسالة الكنيسة. فالكنيسة معنية بالحفاظ على كرامة الإنسان، وعلى القيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية. من هنا، يكون تدخلها ، إن صح التعبير ، تدخلًا توجيهيًا وإرشاديًا، يهدف إلى تنبيه المجتمع والسلطات إلى قضايا تمسّ الفقراء والمهمشين، ورفض السياسات التي قد تمسّ حقوق الإنسان أو تنشر الظلم أو التفرقة.

وقد جاء في تعاليم الكنيسة:

“على الكنيسة أن تظل صوتًا للضمير، تنبّه حين يغيب العدل، وتدعو للسلام حين تشتد الأزمات.”

إن الكنيسة لا تسعى إلى السلطة، بل إلى الشهادة للحق. وهي إذ تعبّر عن رأيها في الشأن العام، فإنها لا تفعل ذلك باعتبارها لاعبًا سياسيًا، بل باعتبارها ضميرًا حيًا للمجتمع.

3. رجال الدين والموقف من القضايا العامة:

رجل الدين لا يُمنع من إبداء رأيه في القضايا العامة التي تؤثر على الناس. بل من واجبه أن يقول كلمته حين تتهدد القيم أو تُنتهك كرامة الإنسان. ولكن، يبقى عليه التمييز بين الموقف الأخلاقي والموقف السياسي، وأن يحافظ على استقلالية الكنيسة عن الأحزاب والتيارات.

الكنيسة والهوية القومية

من المسائل الحساسة التي أُثيرت في العقود الأخيرة هي العلاقة بين الكنيسة والهوية القومية، خاصة في المجتمعات التي تشكل فيها الكنيسة مكوِّنًا أساسيًا من النسيج الثقافي والتاريخي.

1. الكنيسة كحاضنة ثقافية وهوية تاريخية

منذ بدايات المسيحية، لعبت الكنيسة دورًا محوريًا في الحفاظ على هوية الشعوب، لا من خلال فرض قومية بعينها، بل عبر حماية الثقافة واللغة والطقوس التي كوّنت الذاكرة الجماعية للمجتمع. الكنيسة في هذا السياق ليست مؤسسة فوق قومية، ولا أداة بيد السلطة، بل كانت ، في كثير من المراحل التاريخية ، المدافع الأول عن كرامة الشعب، وحقّه في الحفاظ على لغته وثقافته وهويته.

وهنا يجب التذكير بأن الهوية القومية لا تعني بالضرورة الانغلاق أو التعصب، بل تعني الإيمان بالجذور والانتماء، ضمن انفتاح على الآخر واحترام للتنوع.

2. خطر تسييس الهوية الدينية

المشكلة تبدأ حينما تُستخدم الكنيسة لتعزيز هوية قومية على حساب أخرى، أو حين يُربط الإيمان المسيحي بهوية قومية محددة بشكل إقصائي. هذا الاستخدام السياسي للهُوية الدينية يتناقض تمامًا مع رسالة الإنجيل، التي تدعو إلى المحبة والانفتاح والشمول، لا إلى الانقسام والصراع.

إن الكنيسة، بصفتها جامعة وشاملة (كاثوليكية)، تؤمن بأن كرامة الإنسان تسمو فوق كل انتماء قومي أو عرقي أو سياسي. ولذلك، فهي ترفض اختزال الإيمان في إطار قومي ضيق.

3. الكنيسة ودورها في بناء هوية مواطنية

بدلًا من تعزيز الانقسامات، تدعو الكنيسة إلى بناء هوية مواطنيّة تشمل الجميع، حيث يكون لكل فرد – بغضّ النظر عن دينه أو قوميته – مكانة وحقوق متساوية في الدولة والمجتمع. الكنيسة تؤمن بأن المواطنة الحقة تنبني على العدالة، والمساواة، واحترام التعددية، لا على فرض هوية دينية أو قومية بعينها.

خاتمة

في خضم ما يشهده عالمنا اليوم من صراعات فكرية وتحولات سياسية متسارعة، تبرز الحاجة الملحة لفهم دقيق ومتوازن لدور الكنيسة في المجتمع. فالكنيسة، بما تمثله من قيم روحية وأخلاقية، ليست كيانًا سياسيًا أو قوميًّا يُستَغَل في صراعات السلطة أو الهويات، بل هي ضمير حيّ يعمل من أجل كرامة الإنسان، ويدافع عن العدالة والمساواة والسلام.

ليس من الصحيح أن يُنظَر إلى تدخل الكنيسة في الشأن العام على أنه انخراط في السياسة، ما دام هدفه خدمة الخير العام وتوجيه الضمير المجتمعي نحو ما هو حق وعادل. كما لا يجوز تحميل الكنيسة هوية قومية حصرية، أو استخدامها لتغليب قومية على أخرى، فالإيمان المسيحي لا يتنافى مع الانتماء، لكنه يعلو عليه حين يُهدَّد الإنسان أو يُقصى الآخر.

إن مسؤولية الكنيسة اليوم، وأيضًا مسؤولية كل مؤمن فيها، أن يتمسّك بالقيم الإنجيلية في مواجهة التسييس والتعصب والانغلاق، وأن يبقى شاهدًا للحق والعدالة، مهما كانت الضغوط أو الاتهامات. فالكنيسة لا تبحث عن سلطة، بل عن خدمة، ولا عن نفوذ، بل عن شهادة.

شاهد أيضاً

من هو مرشحك المفضل؟ (ميزان الأمل والمسؤولية)

رائد نيسان حنا قد يبدو السؤال “من هو مرشحك المفضل؟” بسيطًا، لكنه في حقيقته بوابة …