واقع المسيحيين بين الدين والسياسة وتحديات المستقبل

يعيش أبناء الأمة الواحدة اليوم حالةً من الانقسام المذهبي والفكري رغم اشتراكهم في أمٍّ واحدة وإيمانٍ واحد. فقد أدّى اختلاف رجال الدين.السياسيون من ابناء امتنا ، وتباين أقوالهم ومواقفهم، إلى خلق التباسٍ بين المؤمنين، وزرع بذور الكراهية والحسد بدل المحبة والتسامح التي أوصى بها المسيح. ومع هذا الانقسام الديني، والسياسي..نشأت أحزاب متعددة تتغذّى على ذات الخلافات، فصار الدين وسيلة سياسية، والسياسة أداة لاستغلال الدين. كثير من رجال الدين انجرّوا – بوعي أو من دونه – إلى خدمة مصالح حزبية ضيّقة، بعدما اكتشف السياسيون أن تأثير رجال الدين على أتباعهم يمكن أن يُستثمر في توجيه الرأي العام. وبهذا تداخلت المصالح، وفقد كلٌّ من الدين والسياسة نقاء رسالته الأساسية. لكنّ هذا الارتباط الهشّ لا يمكن أن يدوم؛ فحين يُستغل الدين لأهداف دنيوية، وحين يُستنزف الإيمان في معارك الأحزاب، ينفر الناس، ويبتعدون عن الكنائس، ويبحثون عن إيمانٍ أكثر صفاءً وحرية. لذلك أرى أن هذا التحالف بين الأحزاب الكبرى ورجال الدين مآله إلى الانحلال مستقبلاً، لأن أساسه لم يُبنَ على خدمة الإنسان بل على خدمة المصالح. من جهة أخرى، يعاني المؤمنون من صرامة القوانين الكنسية التي تحكم الزواج والطلاق، إذ إن المحاكم الكنسية قد تمتد إجراءاتها لسنوات طويلة، ما يجعل حياة كثيرين صعبة، ويمنعهم من بناء عائلة جديدة بعد فشل الزواج الأول. وعندما يتقدّم العمر، يصبح الزواج مجددًا أمرًا شبه مستحيل. في المقابل، نرى مجتمعات أخرى أكثر مرونة في هذه المسائل، مما يسهل حياة الناس ويحافظ على توازنهم الاجتماعي والنفسي. إنّ النتيجة الطبيعية لهذه التعقيدات هي تناقص أعداد المسيحيين في مجتمعاتنا، وهجرة الكثيرين، وتراجع عدد المواليد، حتى باتت الكنائس تُفرغ تدريجيًا من أبنائها. بينما في مجتمعات أخرى، رغم اختلاف العادات، نجد الأسر الكبيرة والحياة الاجتماعية المستقرة. هناك أيضًا ظاهرة مقلقة في الغرب، حيث يختار البعض تربية الحيوانات كالقطط والكلاب بدل إنجاب الأطفال، مما يعكس أزمة في القيم العائلية والروحية. لهذا كلّه، نحن بحاجة إلى مراجعة شاملة داخل المرجعيات المسيحية، تأخذ في الاعتبار واقع الحياة الحديثة وتحدياتها. فالإيمان لا يجب أن يُختزل في نصوص جامدة، بل ينبغي أن يبقى حيًا ومتجدّدًا يخدم الإنسان ويواكب تطوّر الزمن. إنّ الكنيسة، إن أرادت أن تبقى منارة، فعليها أن تفتح أبوابها للناس، لا أن تجعل القوانين سببًا لنفورهم. نحن لا ننتقد إيماننا، بل نريد إنقاذه. نريد كنيسة أكثر قربًا من أبنائها، رجال دين أكثر وعيًا بالواقع، وسياسة أكثر إنسانية. حين نعيد للمحبة مكانها في القلوب، ونحرر الدين من أسر السياسة، ونقرّب القوانين من حاجات الناس، عندها فقط نستطيع أن نحمي وجودنا ونحافظ على حجمنا ودورنا في المستقبل.

بقلم صباح پلندر

شاهد أيضاً

النجف “الغري” والذاكرة والميتافيزيقيا / د. عبد الحسين شعبان

عبد الحسين شعبان /أكاديمي ومفكّر بعد غربة ثانية طال فيها الزمهرير، على حدّ تعبير الشاعر مظفر النواب، …