الشرق الأوسط وشماعات الموت (كفاح محمود)

كفاح محمود

 الشمًّاعة وجمعها شَمَّعات أو العلًّاقة وهي قطعة أثاث يمكن تعليق الملابس عليها، والشماعة عبارة عن مجموعة من الخطافات الملحقة بجدار وتستخدم بشكل أساسي لتعليق المعاطف والسترات والسراويل ولتخزين الحقائب والمظلات وعصي المشي والأحذية وغيرها من الأشياء، هذا ما جاء في تعريفها بالموسوعة الحرة (ويكيبيديا)، وهذه الشماعات او العلاقات نجحت الأنظمة السياسية الشمولية في شرقنا الأوسط بتطويرها واستخدامها كوسيلة لإدامة حكمها وديمومته، ورغم اختلافها مع بعضها حد الاقتتال أحيانا، الا انها تشترك في نمط السلوك والتفكير، ومن أبرز ظواهر تلك المنظومة من التفكير والسلوك هو تعليق أسباب تشبثها بالسلطة بشماعات الشعارات التي تداعب الجانب العاطفي للشعوب سواء كان دينياً او مذهبياً او قومياً، وهي تستخدمها أيضا لتعلق عليها كثير من إرهاصاتها وأسباب فشلها أو مبررات قيامها بأمر ما مخالف للقوانين أو الأعراف، لتكون سبباً مقنعاً للتمويه واستغفال الشعوب وإدامة حكمها، وهي بذلك أي تلك الشماعات تكفي لكي تكون مبرراً لاتخاذ أي إجراء أو تمرير أي قانون أو مشروع خارج سياقات القوانين المتعارف عليها دستورياً، ولعلّ أكثر الدول والأنظمة استخداماً لهذه الشماعات نجدها في العراق وسوريا وليبيا واليمن وإيران والعديد من الأنظمة المشابهة لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي السائد في هذه الدول.

   ولعل أخطر استخدام لتلك الشماعات هي التهم الموجهة لمعارضي النظم السياسية خارج إطار القضاء، ففي أواخر خمسينيات القرن الماضي حينما بدأت مرحلة الحكم الشمولي في العراق بمذبحة العائلة الملكية، كانت تهمة أي معارض للنظام هي شماعة الرجعية والعمالة للإمبريالية والاستعمار، ثم تطورت لتشمل القومية والتدين، وكانت العروبة والكردية والإسلامية السياسية تهمة كافية لتعلق صاحبها على المشنقة او التصفية الصامتة، وما كادت أن تنتهي تلك الفترة بانقلاب 8 شباط 1963م حتى بدأت موجة انتقام وحشي وصلت الى درجة إصدار بيان حكومي سيء الصيت اسمه البيان 13 الذي أباح قتل كل معارض للبعثيين وفي مقدمتهم الشيوعيين وبقية اليساريين، وقد أتاح هذا البيان لكل شخص لديه مشكلة مع شخص آخر أن يتهمه بالشيوعية او اليسارية أو المعارضة لكي يتم إعدامه فوراً، وخلال أسابيع من شهري شباط وآذار 1963م غرق العراق في حمامات دماءٍ ومذابح قتل فيها الآلاف من المواطنين لا علاقة لأغلبيتهم بالسياسة وتعليق تصفيتهم على شماعة الشيوعية والإلحاد والمعارضة للنظام.

   إنها شماعات الموت التي حولت البلاد الى صراعات دموية حادة مهدت لحروب داخلية طاحنة في كوردستان العراق ومن ثم مع الشيعة والسنة ايضاً، راح ضحيتها مئات الآلاف من خيرة أبناء وبنات العراق ومن كل المكونات القومية والدينية والمذهبية والسياسية، لا لشيء إلا لكونهم معارضين او مشتبه بمعارضتهم أو أقربائهم، كما كانوا يصنفونهم حتى الدرجة الرابعة من القرابة، ناهيك عن الحروب الخارجية مع إيران والكويت والتحالف الدولي أدت الى تدمير العراق لعشرات السنين القادمة.

   والمؤلم ان كل هذه الفواجع وحمامات الدم والمآسي لم تنتج معارضة قادرة على إسقاط تلك الأنظمة الا بمساعدة خارجية، كما حصل في ليبيا وأفغانستان وايران وسوريا الى حد ما، وفي العراق تحولت المساعدة الى احتلال العراق وأسقاط هيكل نظام الأنفالات والأسلحة الكيماوية والمقابر الجماعية والجيش الشعبي والأمن الخاص وبقية مؤسسات صناعة الموت، وقد توفرت فرصة ذهبية امام النخب السياسية وشعوب تلك البلدان رغم مرارة الاحتلال لإعادة بناء الدولة والخروج من ظلمات النظم الشمولية، لكن للأسف ورغم النجاحات التي تحققت في عدة ميادين إلا أنها اصطدمت بإرث متكلس من السلوك وطريقة التفكير التي لم تختلف كثيرا عن سابقاتها من الأنظمة، بل ربما تجاوزتها في أحيان عديدة، ليس في العراق فحسب بل في كل من ليبيا واليمن وايران وأفغانستان، وبدلاً من دكتاتور واحد وجيش واحد وأجهزة أمن واحدة، انشطرت الى العشرات حيث فرخت الأجهزة الخاصة بصناعة الموت العديد من الجماعات المسلحة والميليشيات الدينية والمذهبية المتطرفة، وكما تتوالد القطط الشباطية توالدت الشماعات فأصبحت شماعة داعش والبعث والسيادة والحشد المقدس وتحرير القدس والصهيونية والتطبيع والطائفية وكل واحدة من هذه الشماعات ترسل صاحبها الى ما وراء الشمس، وترسل البلاد الى حقبة من الصراعات الأكثر عنفاً ودموية من الأنظمة السابقة.

   وخلاصة القول لقد نهضت اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا بعد حروب طاحنة مدمرة وتحولت الى قوى عظمى خففت من وطأة الاحتلال في إعادة بناء البلاد وإعمارها، لكن ما حصل لدينا وبعد عقدين من الزمان وأكثر من ألفي مليار دولار كناتج قومي، أكد بما لا يقبل الشك بأن ثقافة الشماعات وعدم قبول الاخر بل والإصرار على إبادته متكلسة في النظام التربوي والاجتماعي ليس للنخب الحاكمة فقط بل حتى لدى غالبية المحكومين.

   إن البناء والتقدم ليس في المباني الشاهقة بل في إعداد وبناء العقول الشاهقة!

kmkinfo@gmail.com

شاهد أيضاً

لا زلت أعيش ذكريات طفولتي (صباح بلندر)

اقترب اليوم عمري من سن الشيخوخة وأنا دائم التفكير كيف قضيت سنوات من عمري بدءاً …